التقيَّد بالأجزاء والأحزاب في القراءة محدث مخالف للسنة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعــــــــــد
فنرى بعض الأئمة والقرَّاء هدانا الله وإياهم في صلاة التراويح يتقيدون بالأجزاء والأحزاب عند الانتهاء من القراءة في الركعة وبالأخص عند نهاية صلاة التراويح حيث يقفون على نهاية الجزء ولا يراعون المعنى المرتبط ببعض الآيات التي قد تكون في الجزء الذي بعده , مثل أن يقف على قوله تعالى ((وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)ثم يركع , أو ينهي صلاة التراويح عند قوله تعالى ((وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ)) لأنها نهاية الجزء ويترك قوله تعالى ((إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)) إلى الليلة المقبلة وهذا لا شك ولا ريب أن فاعل ذلك لم يكن متدبرا لما سبق من الآيات وإلا لحمله التدبر مراعة المعنى أن يقراء الآية التي تليها لأنها مرتبطة بالتي قبلها .
فبدا لي أن أنقل كلام يسير لبعض أهل العلم في هذه المسألة عسى الله أن ينفع به من قرأهُ .
قال النووي رحمه الله
في كتابه ((التبيان في آداب حملة القرآن ))
{[ فصل ] ينبغي للقارئ إذا ابتدأ من وسط السورة أو وقف على غير آخرها أن يبتدئ من أول الكلام المرتبط بعضه ببعض وأن يقف على الكلام المرتبط ولا يتقيد بالأعشار والأجزاء فإنها قد تكون في وسط الكلام المرتبط كالجزء الذي في قوله تعالى ((وما أبرئ نفسي)) وفي قوله تعالى ((فما كان جواب قومه)) وقوله تعالى ((ومن يقنت منكن لله ورسوله ))وفي قوله تعالى ((وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء)) وفي قوله تعالى ((إليه يرد علم الساعة ))وفي قوله تعالى ((وبدا لهم سيئات)) وفي قوله((قال فما خطبكم أيها المرسلون)وكذلك الأحزاب كقوله تعالى (واذكروا الله في أيام معدودات) وقوله تعالى( قل هل أنبئكم بخير من ذلكم) فكل هذا وشبيهه ينبغي أن يبتدأ به ولا يوقف عليه فإنه متعلق بما قبله ولا يغترن بكثرة الغافلين له من القراء الذين لا يراعون هذه الآداب ولا يفكرون في هذه المعاني وامتثل ما روى الحاكم أبو عبد الله بإسناده عن السيد الجليل الفضيل بن عياض رضي الله عنه قال لا تستوحش طرق الهدى لقلة أهلها ولا تغترن بكثرة الهالكين ولا يضرك قلة السالكين
ولهذا المعنى قالت العلماء قراءة سورة قصيرة بكاملها أفضل من قراءة بعض سورة طويلة بقدر القصيرة فإنه قد يخفى الارتباط على بعض الناس في بعض الأحوال وقد روى ابن أبي داود بإسناده عن عبد الله بن أبي الهذيل التابعي المعروف رضي الله عنه قال كانوا يكرهون أن يقرؤوا بعض الآية ويتركوا بعضها
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه :_
" إنَّ هَذِهِ التحزيبات الْمُحْدَثَةَ تَتَضَمَّنُ دَائِمًا الْوُقُوفَ عَلَى بَعْضِ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ بِمَا بَعْدَهُ حَتَّى يَتَضَمَّنَ الْوَقْفَ عَلَى الْمَعْطُوفِ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَيَحْصُلَ الْقَارِئُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مُبْتَدِئًا بِمَعْطُوفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَيَتَضَمَّنُ الْوَقْفَ عَلَى بَعْضِ الْقِصَّةِ دُونَ بَعْضٍ - حَتَّى كَلَامُ الْمُتَخَاطِبَيْنِ - حَتَّى يَحْصُلَ الِابْتِدَاءُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بِكَلَامِ الْمُجِيبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } . وَمِثْلُ هَذِهِ الْوُقُوفِ لَا يَسُوغُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ إذَا طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِأَجْنَبِيِّ ؛ وَلِهَذَا لَوْ أُلْحِقَ بِالْكَلَامِ عَطْفٌ أَوْ اسْتِثْنَاءٌ أَوْ شَرْطٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ بِأَجْنَبِيٍّ لَمْ يَسُغْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ تَأَخَّرَ الْقَبُولُ عَنْ الْإِيجَابِ بِمِثْلِ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُتَخَاطِبَيْنِ لَمْ يَسُغْ ذَلِكَ بِلَا نِزَاعٍ وَمَنْ حَكَى عَنْ أَحْمَد خِلَافَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ كَمَا أَخْطَأَ مَنْ نَقَلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْأَوَّلِ خِلَافَ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُتَعَاقِدَانِ غَائِبَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا غَائِبًا وَالْآخَرُ حَاضِرًا فَيَنْقُلُ الْإِيجَابَ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فَيَقْبَلُ فِي مَجْلِسِ الْبَلَاغِ وَهَذَا جَائِزٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا حَاضِرَيْنِ وَاَلَّذِي فِي الْقُرْآنِ نَقْلُ كَلَامِ حَاضِرَيْنِ مُتَجَاوِرَيْنِ فَكَيْفَ يَسُوغُ أَنْ يُفَرَّقَ هَذَا التَّفْرِيقُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ؟ بِخِلَافِ مَا إذَا فَرَّقَ فِي التَّلْقِينِ لِعَدَمِ حِفْظِ الْمُتَلَقِّنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . " الثَّانِي " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ عَادَتُهُ الْغَالِبَةُ وَعَادَةُ أَصْحَابِهِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الصَّلَاةِ بِسُورَةِ ( ق )وَنَحْوِهَا وَكَمَا كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ " بِيُونُسَ " و " يُوسُفَ " و " النَّحْلِ " { وَلَمَّا قَرَأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْفَجْرِ أَدْرَكَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ فِي أَثْنَائِهَا . وَقَالَ : إنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطِيلَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأُخَفِّفُ لِمَا أَعْلَمُ مِنْ وَجْدِ أُمِّهِ بِهِ } " . وَأَمَّا " الْقِرَاءَةُ بِأَوَاخِرِ السُّوَرِ وَأَوْسَاطِهَا " فَلَمْ يَكُنْ غَالِبًا عَلَيْهِمْ ؛ وَلِهَذَا يُتَوَرَّعُ فِي كَرَاهَةٍ ذَلِكَ وَفِيهِ النِّزَاعُ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَمِنْ أَعْدَلِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ قَالَ يُكْرَهُ اعْتِيَادُ ذَلِكَ دُونَ فِعْلِهِ أَحْيَانًا ؛ لِئَلَّا يَخْرُجَ عَمَّا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ . وَعَادَةُ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا التَّحْزِيبَ وَالتَّجْزِئَةَ فِيهِ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي قِرَاءَةِ آخِرِ السُّورَةِ وَوَسَطِهَا فِي الصَّلَاةِ وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَا رَيْبَ أَنَّ التَّجْزِئَةَ وَالتَّحْزِيبَ الْمُوَافِقَ لَمَّا كَانَ هُوَ الْغَالِبَ عَلَى تِلَاوَتِهِمْ أَحْسَنُ
. و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ التَّحْزِيبَ بِالسُّورَةِ التَّامَّةِ أَوْلَى مِنْ التَّحْزِيبِ بِالتَّجْزِئَةِ . " الثَّالِثُ " أَنَّ التَّجْزِئَةَ الْمُحْدَثَةَ لَا سَبِيلَ [ فِيهَا ] إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ حُرُوفِ الْأَجْزَاءِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُرُوفَ فِي النُّطْقِ تُخَالِفُ الْحُرُوفَ فِي الْخَطِّ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ يَزِيدُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ .{ انتهى كلامه رحمه الله}
كذلك لا بد من مراعاة هذه الأحكام عند قطع القراءة، أي الانتهاء منها، سواء كان ذلك في الصلاة أو خارجها، بل إن الاهتمام بذلك هنا أبلغ، وقد أكَّد السلف -رحمهم الله- على ذلك، فعن ميمون بن مهران أنه قال: "إني لأقشعر من قراءة أقوام يرى أحدهم حتما عليه ألا يقصر عن العشر، إنما كانت القراء تقرأ القصص إن طالت أو قصرت، يقرأ أحدهم اليوم (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] ويقوم في الركعة الثانية فيقرأ (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) [البقرة:12] .
قال أبو عمرو الداني بعد ذكره هذا الأثر: "هذا يبين أن الصحابة كانوا يتجنبون في قراءتهم القطع على الكلام الذي يتصل بعضه ببعض، ويتعلق آخره بأوله؛ لأن ميمون بن مهران إنما حكى ذلك عنهم إذ هو من كبار التابعين، وقد لقي جماعة منهم"([4]).
لكن إذا اشتد تعلُّق الآية بما بعدها فالمختار أن يقف عليها، ثم يعود ويَصِلها بما بعدها، كما في قوله : (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ...(219) فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ﴾ [ البقرة: 219-220].
وإذا كان الوقف على رأس الآية يُحيل المعنى فالأولى عدم الوقوف، كما في قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ) [الماعون:4]([7]).
أما في مقام التعلم فإنه لا بأس في الوقوف على ما لم يتم معناه، إذا شقِّت مراعاة المعاني.
وأخيراً يجدر التنبيه إلى أن بعض القراء يجتهد في بعض الوقوف دون معرفةٍ بمعاني القرآن الكريم،أو رجوع إلى كتب التفسير والوقف والابتداء()، ولذلك يقفون وقفاتٍ غريبة تحيل المعنى.
قال ابن الجزري: " ليس كل ما يتعسَّفُه بعض المعربين أو يتكلفه بعض القراء، أو يتأوله بعض أهل الأهواء مما يقتضي وقفا وابتداء ينبغي أن يتعمد الوقف عليه، بل ينبغي تحري المعنى الأتم والوقف الأوجه، وذلك نحو الوقف على ﴿وَارْحَمْنَا أَنْتَ ﴾ والابتداء ﴿مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة:286] ... "([9]).
وإذا كان القارئ ليس عنده عِلم بما يحسُن الوقف عنده وما يَقبُح، فعليه أن يستفيد من كتب الوقف والابتداء، أو من علامات الوقوف الموجودة في المصاحف، ولا سيما المصاحف التي تولى وضع علامات وقوفها العلماء المتخصصون.
وكتبه /سعد بن عبد الله السعدي
منقول
| |
الموضوعالأصلي : التقييد بالأجزاء والأحزاب في القراءة محدث مخالف للسنة المصدر : منتـديات الشـارف الكاتب: